اتفاق غزة- ضغط ترامب، فشل العملية العسكرية، وتحولات اليمين الإسرائيلي

المؤلف: د. مهند مصطفى09.23.2025
اتفاق غزة- ضغط ترامب، فشل العملية العسكرية، وتحولات اليمين الإسرائيلي

إن الاتفاق الراهن لوقف إطلاق النار في أرجاء قطاع غزة، قد انبثق كنتيجة لسلسلة متداخلة من العوامل المتنوعة، ومن بين هذه العوامل، يبرز الدور المحوري الذي اضطلع به الرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب، في ممارسة ضغوط مُحكمة على نتنياهو، بُغية دفعه إلى القبول بهذا الاتفاق، ومن اللافت للنظر أن هذا الاتفاق يحاكي إلى حد كبير، المقترح الذي تقدم به الرئيس جو بايدن في شهر مايو/أيار من عام 2024، والذي تلكأ نتنياهو في التوقيع عليه في حينه، ساعيًا إلى إجراء مباحثات وقف إطلاق النار تحت رعاية ترامب، وهو رهان مُحفوف بالمخاطر، قد تكبد نتنياهو بسببه خسائر فادحة، حيث فرض عليه ترامب مقترح بايدن، على نحو يتعارض بشكل صارخ مع توقعات اليمين المتطرف.

باتت مشاعر خيبة الأمل تتصاعد في أوساط اليمين الإسرائيلي تجاه ترامب، وهو ما انعكس بوضوح في خطاباتهم الأخيرة، حيث تحول وصفه من "المنقذ" المنتظر، إلى التأكيد على ضرورة "احترام ترامب، مع التشكيك العميق في جميع وعوده وسياساته".

السبب الجوهري الآخر الذي دفع بمساعي إبرام الاتفاق، يتمثل في التحول التدريجي في موقف المجتمع الإسرائيلي، نحو تأييد فكرة وقف الحرب الدائرة في قطاع غزة، وذلك بهدف إطلاق سراح الأسرى والرهائن الإسرائيليين المحتجزين هناك.

في الماضي القريب، كان المجتمع الإسرائيلي يُبدي تأييده المطلق للتوقيع على صفقة أو اتفاق لا يكون ثمنه وقفًا للحرب، إلا أن هذا التوجه بدأ في التغير بشكل ملحوظ، عقب مقتل يحيى السنوار، والتوصل إلى تسوية مع لبنان، حيث بات الرأي العام الإسرائيلي يميل نحو إطلاق سراح الأسرى والرهائن، حتى لو كان ذلك مقابل وقف إطلاق النار، مما يعني أن استمرار الحرب لم يعد يحظى بإجماع شعبي واسع داخل المجتمع الإسرائيلي.

أما السبب الثالث، فيتمثل في الفشل الذريع للعملية العسكرية التي شُنّت في شمال قطاع غزة، والتي كان يُنظر إليها كورقة الضغط الأخيرة على حركة حماس، بهدف إطلاق سراح الأسرى والرهائن، من خلال عملية مقايضة بين الأرض والأسرى، وإجبارها على التوقيع على اتفاق يستجيب بشكل كامل للشروط الإسرائيلية.

لم تحقق هذه العملية أهدافها المنشودة فحسب، بل إنها ارتدت بنتائج عكسية على الحكومة الإسرائيلية، وتحولت إلى عامل مُحفز للإسرائيليين لوقف الحرب، وذلك بسبب الخسائر البشرية الفادحة التي تكبدها الجيش في صفوف جنوده، فضلاً عن التداخل والتشابك بين الأهداف المعلنة للعملية العسكرية (التي وضعها الجنرالات)، والتي تتمثل في الضغط على حماس لإطلاق سراح الأسرى والرهائن، والهدف الأيديولوجي لليمين الإسرائيلي المتطرف، الذي يعتبرها عملية تهدف إلى بناء المستوطنات، وليس لتحرير الأسرى والرهائن الإسرائيليين.

وفي هذا السياق، ارتكب نتنياهو ثلاثة أخطاء جوهرية فادحة في إدارة دفة الحرب:

أولاً: رفضه التوقيع على مقترح بايدن في شهر مايو/أيار، عندما كان المجتمع الإسرائيلي لا يزال يؤيد استمرار الحرب.

ثانيًا: شن العملية العسكرية في شمال قطاع غزة، والتي أدت إلى مقتل 55 جنديًا، وإصابة المئات بجروح، مما أدى إلى تآكل الإجماع الشعبي على الحرب، وإعادة إحياء الحساسية الإسرائيلية المفرطة تجاه مقتل الجنود، والتي لم تكن حاضرة بقوة في السنة الأولى من الحرب.

ثالثًا: الرهان الخاسر على دونالد ترامب، حيث لم يدرك اليمين المتطرف ونتنياهو أن أولويات ترامب تختلف تمامًا عن أولوياتهم، بل إنه يرى في استمرار الحرب عائقًا كبيرًا أمام تصوراته ومخططاته "للسلام" في منطقة الشرق الأوسط.

يشكل هذا الاتفاق اصطدامًا مباشرًا بمنظومة اليمين الجديد في إسرائيل، وهو اليمين الذي بدأ في التبلور والتشكل في المشهد السياسي الإسرائيلي منذ العام 2009، مع عودة نتنياهو إلى سدة الحكم.

لقد اتكأت منظومة ذلك اليمين الجديد على مجموعة من الأفكار والمعتقدات، أبرزها:

  • رفض الانسحاب من أي أراضٍ تحتلها إسرائيل، واعتبار الانسحاب بمثابة دليل قاطع على الضعف الداخلي، والتصدع الذي يهدد المشروع الاستيطاني برمته، وتهديد للأمن القومي الإسرائيلي. وتعهدوا بأن يكون الانسحاب من قطاع غزة وشمال الضفة الغربية في عام 2005 هو الانسحاب الأخير الذي تنفذه إسرائيل.
  • رفض صفقات تبادل الأسرى، ليس فقط لما تنطوي عليه من تهديدات أمنية (وهو ما يتفق عليه مع فئات غير يمينية)، وإنما لأنها تمثل اعترافًا ضمنيًا بوجود حركة وطنية فلسطينية، وكيان سياسي للطرف الآخر، وهو الأمر الذي يتناقض بشكل صارخ مع خطاب اليمين الجديد، الذي لا يعترف بوجود شعب فلسطيني من الأساس، حتى يتم الاعتراف بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، كما حدث في إسرائيل منذ تسعينيات القرن الماضي، مع الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية.

في خضم الأزمة التي عصفت بالائتلاف الحكومي، بعد إعلان بن غفير عن استقالته ووزراء حزبه من الحكومة، إذا ما تم إقرار الاتفاق، فمن المرجح أن يميل حزب الصهيونية الدينية، برئاسة سموتريتش، إلى البقاء في الحكومة، وذلك من أجل الاستمرار في تنفيذ مشروعه الاستيطاني التوسعي في الضفة الغربية، الذي يعتبره الأهم على الإطلاق، ويمنحه الأولوية القصوى على إسقاط الحكومة.

سيعبر وزراء وأعضاء تيار الصهيونية الدينية عن معارضتهم الشديدة للاتفاق بطريقة قاسية، وسيعتبرونه كارثة حقيقية تهدد أمن إسرائيل، وسيسوقون بقاءهم في الحكومة بالوعد باستئناف الحرب، وتكثيف وتيرة الاستيطان في الضفة الغربية المحتلة.

وهنا، يجب التمييز بوضوح بين جمهور حزب الصهيونية الدينية، برئاسة سموتريتش، وجمهور عظمة يهودية، برئاسة بن غفير، في موقفهما من هذا الاتفاق، وذلك بسبب الاختلافات الجوهرية في التوجهات والأولويات لكل منهما؛ فجمهور سموتريتش يتشكل في الأساس من المستوطنين القاطنين في الضفة الغربية، وهو حزب المستوطنين بامتياز.

أما جمهور حزب "عظمة يهودية"، بقيادة بن غفير، فيتنوع بين المستوطنين واليمين المحافظ من اليهود الشرقيين على وجه الخصوص، الذين استقطبهم خطاب بن غفير الشعبوي، الذي يتبنى وعودًا براقة بتحقيق الأمن الشخصي، والتنكيل بالفلسطينيين داخل الخط الأخضر، وتشدده بشأن الأسرى الفلسطينيين، خلال فترة توليه منصب وزير الأمن القومي.

لذلك، يعتبر هذا الاتفاق بمثابة ضربة موجعة في صميم خطاب بن غفير، لا سيما فيما يتعلق بالأسرى الفلسطينيين، حيث عمل على التنكيل بهم، وتفاخر بفرض قيود وحشية وغير إنسانية عليهم، في خطاب عام استهدف مجمل الإسرائيليين، في حين ركز سموتريتش خطابه وعمله على الاستيطان وتوسيع المستوطنات، واستهداف جمهور المستوطنين بشكل خاص.

لذلك، فإنه يستطيع تسويق بقائه في الحكومة في صفوف جمهوره، من خلال التأكيد على أن ما حققته الصهيونية الدينية كحزب وتيار فاعل في الحكومة الحالية غير مسبوق، وهي فرصة تاريخية لن تتكرر، وإذا ما خرج من الحكومة، فسيصبح المشروع الاستيطاني الذي يعمل عليه مُهددًا بالانهيار، وبالتالي فإن مصلحة تياره تكمن في البقاء في الحكومة والتصويت ضد الاتفاق.

سيسعى نتنياهو جاهدًا لتسويق هذا الاتفاق، باعتباره يتيح فرصًا إستراتيجية جديدة لإسرائيل في المنطقة، مثل إنجاز اتفاقات تطبيع تاريخية مع دول عربية أخرى، ويضمن في الوقت نفسه نهاية حكم حركة حماس السياسي في قطاع غزة.

وفي المقابل، يمكن القول بكل ثقة أن هذا الاتفاق قد قضى بشكل كامل على مستقبل نتنياهو السياسي، وسيتضح ذلك جليًا في أول انتخابات تجرى في إسرائيل.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة